(مقال ترجمته للصحفي الأمريكي توماس فريدمان)
يتمنى المرء في بعض الأحيان أن يصبح مصوراً فوتوغرافياً. وبالنسبة لي، فقد نضبت مني الكلمات التي تعبر عن الجمال الأخاذ للقطعة الجليدية الضخمة المسماة "كانغيا" الواقعة في جزيرة غرينلاند. تمتد هذه القطعة الجليدية على شكل جبال جليدية ضخمة بحجم ناطحات السحاب المعروفة لدينا، وتسبح هذه الجبال الضخمة ببطء لتصل إلى لوليسات حتى تنهار أخيراً في المحيط على الساحل الغربي لغرينلاند. هناك تطفو تلك المنحوتات الطبيعية وتتحرك على طبقات المياه الصافية بالقرب من هنا. ويمكن الإبحار بين هذه الجبال الجليدية في قارب صيد، حيث تستطيع الاستماع إلى تلك الوحوش الجليدية البيضاء وهي تتكسر وتتفتت بحزن وكأنها تحتج على المصير المخجل الذي آلت إليه.
من المحتم أنك ستشعر بالوحدة هنا بين تلك الجبال الجليدية الضخمة، ماعدا الوجود المؤنس لصياد وحيد يحاول اصطياد نوع معين من السمك. توجه قاربنا الصغير إلى هذا الصياد حيث ابتاع أصدقائي الذين يضيفوني هذا السمك الذي كان قد التقطه الصياد للتو. وقد استمتعت حينها بطعم هذا النوع اللذيذ من السمك والذي كان بلا شك طازجاً وشهياً. وقد قال لي كيم كيزلين، وهو وزير البيئة في غرينلاند، مازحاً: "هذا هو طعام غرينلاند السريع".
من المحزن أني لا أعمل لقناة ناشيونال جيوغرافيك. إني أكتب هنا في قسم الآراء في صحيفة نيويورك تايمز. ولقد جعلتني هذه الرحلة مع وزير المناخ والطاقة الدانمركي، كوني هيدغارد، والتي خصصت لرؤية آثار التغيرات المناخية على طبقات الجليد في غرينلاند، أخلف انطباعاً سيئاً مفاده: لابدّ وأن أحفادنا والأجيال القادمة سيكونون حانقون علينا.
لقد رهنّا مستقبل الأجيال القادمة بيد بطاقات الاعتماد المصرفية. لقد أضفنا الكثير من غازات البيوت الزجاجية السامة إلى الجو، والنتيجة أن أطفالنا وأحفادنا سيتوجب عليهم لفترة طويلة من عمرهم التعامل مع التأثيرات المناخية الفظيعة التي خلفها عدم اكتراثنا بالبيئة. والآن يتشدق قادتنا ويقولون لتلك الأجيال بأن الحل لهذه المشكلة هو "التنقيب عن النفط في المحيطات" والذي سوف يقود إلى استخراج الوقود المستحاثي المضر للبيئة. لعمري إن هذا ضرب من الجنون.
يفترض معظم الناس أنهم سيشعرون بتأثيرات التغيرات المناخية عبر الكوارث الطبيعية الكبيرة مثل إعصار كاترينا. لكن هذا ليس بالضرورة، كما يقول مينيك روزينغ كبير العلماء الجيولوجيين في متحف التاريخ الوطني في الدانمارك والذي يرافقني في هذه الرحلة. يقول روزينغ: "معظم الأشخاص سوف يشعرون بالتغيرات المناخية وسوف تصل تأثيراتها عبر ساعي البريد". وستأتي هذه التأثيرات على شكل فواتير مياه مرتفعة بسبب حالات الجفاف المتزايدة في بعض المناطق، وعلى شكل فواتير كهرباء كبيرة بسبب حظر استخدام الوقود المستحاثي، بالإضافة إلى المعدلات المتزايدة لتكاليف التأمين والرهن العقاري بسبب أحوال الطقس المتقلبة والتي تضرب مناطق عدة بعنف.
وتعد جزيرة غرينلاند من أفضل الأماكن حول العالم التي يمكن فيها ملاحظة تأثيرات التغيرات المناخية. وبما أن غرينلاند، وهي أكبر جزيرة في العالم، يقطنها 55000 نسمة فقط، بالإضافة إلى انعدام الصناعة، فإن وضع الطبقات الجليدية الضخمة هناك، أضف إلى ذلك درجات الحرارة والمعدلات المطرية والرياح، كل ذلك يتأثر بالتيارات المناخية والمحيطية العالمية التي تتلاقى هنا. وكل ما يحدث في الصين أو البرازيل يمكن الشعور به هنا. وبما أن سكان هذه الجزيرة يعيشون قريباً من الطبيعة، فمن الأولى أن يعتبروا المقياس العام للتغييرات المناخية.
هذه هي الطريقة التي تعلمت بها لغة جديدة هنا تسمى: "لغة المناخ".
يمكن تعلم هذه اللغة بسهولة، فهي تحتوي على ثلاث عبارات. العبارة الأولى هي: "منذ عدة سنين فقط...". فمنذ عدة سنين فقط كان يمكنك التزلج هنا في شتاء غرينلاند عبر المنحدرات الجليدية التي امتدت لأربعين ميلاً لتصل إلى جزيرة ديسكو. لكن في السنوات الأخيرة سببت درجات الحرارة المرتفعة في غرينلاند ذوبان المنطقة الواصلة بين الجزيرتين، حيث تطفو جزيرة ديسكو لوحدها الآن. يا للخيبة، ليس هناك تزلج بعد اليوم.
وقد ارتفعت معدلات ذوبان الطبقات الجليدية لجزيرة غرينلاند بمعدل 30% بين عام 1979 و 2007. وفي عام 2007، كان الذوبان أكبر بعشرة بالمئة من أي عام سبقه، وفقاً لكونراد ستيفين، مدير المعهد التعاوني لأبحاث العلوم البيئية في جامعة كولورادو، والذي يراقب التغييرات الحاصلة في الجليد. وتخسر جزيرة غرينلاند 200 كيلومتر مكعب من الجليد سنوياً، حيث يذوب الجليد وتنزلق الطبقات الذائبة من القطع الجليدية الضخمة في المحيط. وتزيد هذه الكمية الذائبة لوحدها عن حجم الجليد بأجمعه في جبال الألب الأوروبية. يقول ستيفين: "يحدث كل شيء هنا أسرع بكثير من المتوقع".
أما العبارة الثانية في اللغة المناخية فهي: "لم أرَ هذا من قبل...". فقد شهدت لوليسات الأمطار في ديسمبر ويناير، وكان هذا حدث غير اعتيادي بالنسبة للمنطقة القطبية الشمالية، حيث ليس من المفترض أن تمطر هنا في الشتاء. يقول ستيفين: "لو قلت لأي أحد من سكان لوليسات قبل عشرين عاماً بأنها سوف تمطر في شتاء العام 2007 لكنت أصبحت مهزلة الناس، لكنها اليوم حقيقة واقعة".
أما العبارة الثالثة والأخيرة فهي: "حسن بالعادة... لكني لا أعلم بعد الآن". فقد تغيرت العادات المناخية التقليدية التي عرفها سكان جزيرة غرينلاند طيلة حياتهم بشكل سريع جداً في بعض المناطق، ويقول روزينغ: "لا تعتبر الآن الخبرات المتراكمة لسكان غرينلاند ذات قيمة كبيرة كما كانت من قبل". وقد جفّ النهر الذي طالما عرفه سكان الجزيرة، واختفى الجليد الذي كان يغطي التلال، ولم تعد تظهر حيوانات الرنة التي لطالما كانت هنا في موسم الصيد الذي عادة ما يبدأ في أغسطس من كل عام.
لذلك، ليس من العجيب أن نتكلم لغة المناخ في عصرنا هذا، ولا بدّ أن أطفالنا سوف يتكلمونها في وقت أقرب مما نظن.
No comments:
Post a Comment